عالماشي

Thursday, February 02, 2006

صـلاة المـوت

تعلن الخطوط المصرية عن بدء إستقبال الركاب على رحلتها 990 والمتوجهة إلى القاهرة ... وذلك عن طريق بوابة رقم 27. "حسناً .. لكنني آتية ولن أعدل عن ذلك" أغلقت السماعة, نظرت حولها وكأنها لا تدري ما الذي جاء بها إلى مطار JFK بنيويورك الأشبه بالمتاهة , ثم سألت النادل : عفواُ أين بوابة الرحلة المتجهة لمصر؟ فأشار إلى الشاشة عن يمينها
شكراُ
استعدت الفتاة في قاعة مسافري الدرجة الأولى للتوجه, تجر حقيبة سوداء خلفها, سواد يشبه سواد شعرها الذي تموج خلفها كستار حريري تداعبه نسمات الربيع. كان شأنها شأن الأميرات التي يقص للصغار عن جمالهن وسحرهن. لم تضع أيا من المساحيق على وجهها سوى كحل يزيد عينيها فتنة. ترتدي معطفاً رمادي, كلون سماء مدينة نيو يورك في فصل الشتاء. وقفت أمام بوابة المغادرة حيث أخذ الرجال يرمقونها بنظرات الإعجاب, لكن جداراً من الصمت خيم على المكان برمته, فقد كان الوقت متأخراُ والكل آذاه التعب والبرد. وقع نظرها على أم في آواخر العقد الثاني من عمرها تحدث إبنتها كصديقة عمر آت ليس بماض .
عقبال عندك
نظرت وإذ بعجوز قد مالت برأسها نحوها وهي تنظر معها لمشهد الأم مع طفلتها
"م..تشكر..ه" قالتها و الشك يساورها أهكذا تقال؟ حدثت نفسها.
" ذاك من دواع سروري عزيزتي" خاطبتها العجوز بلهجة بريطانية بحته. لم تشك الفتاة معها أنها مستشرقة أو شيء من هذا القبيل. ثم استكملت "إن أنوثة المرأة وأمومتها وجهان لعملةٍ واحدة عزيزتي" و ختمت جملتها بابتسامة حانية.
أخذ الطاقم ينادي على ركاب الدرجة الأولى فقامت بصمت وأومئت للعجوز بالشكر معلنةً رحيلها بإبتسامة حزينة. اقترب مراهق من العجوز حالما ذهبت الفتاة تجر حقيبتها و أخذ بصره يلاحقها حتى فقدها بين الزحام.
جدتي من تلك الحسناء؟
ليس ذلك السؤال عزيزي, بل قل ما بال هذه الحسناء؟
ثم صمتت العجوز برهة.
جدتي؟
لا عليك..على العموم أين أخوك ؟
قادم الآن.
حيتها المضيفة بكل تصنع وكأنها الحبيب الغائب: صباح الخير , مرحباً بك على متن الطائرة..." بدا الإمتعاض جلياً على ملامحها وكأنها ضاقت ذرعاً بتلك الشكليات. ذهبت إلى حيث أشارت المضيفة, وضعت الحقيبة بالرف العلوي. ثم جلست شاخصة البصر أمامها, إنتبهت وإذ بالمضيفة مرة أخرى بتصنعها تسألها إن كانت تريد أن تشرب شيئاً قبيل الإقلاع.
تنهدت ورمقتها قائلة : أرجو منك أن تدعيني وشأني, لا أريد طعاماً ولا شراباً..
"حسناً سيدتي " و ابتسمت مرةً أخرى.
جلس بجانبها رجل في الأربعين من عمره, يبدو عليه أنه رجل أعمال في إجازة فملابسه متضاربة المناسبات والألوان ربما لأن ذوقه ما اعتاد سوى البذات الفارهة ومثله لا يعرف أن يظهر على حقيقته كرجل عادي. تظاهرت بالنوم, إلا أنه كان من المضحك بعض الشيء أن يحدث أصواتاً و يفتعل أموراً شتى كي تنتبه من منامها المصطنع. أخذ الطيار بالتحدث عن إجراءات السلامة و حالة الطقس. من الغريب أن تصر الخطوط برمتها أن تواصل خطبة لا يعيرها أي من الركاب اهتماماً أو انتباهاً
"ما شأننا بالجو خارج الطائرة إن كنا موثقين بداخلها" تسائلت في نفسها.
أغمضت عينيها وأخذت تعود بذكرياتها إلى الوراء لتسترجع شريط دام ثلاث وعشرين عاماً.. كانت تبتسم حيناً و تغرق بالتفكير. كيف كانت حياتها لتكون لو فعلت كذا أو كذا؟ مرت بسنوات المراهقة كم كانت ساذجة ً حينها, تذكرت أختها الصغيرة و صديقتها "فاتن" انتهى الشريط بالمكالمة, التي أجرتها لتوها مذ ساعة أو دون. تلك المكالمة سلبت منها نفسها لتتركها جيفة بالية وجثة هامدة. مسحت دمعة هربت من عينها.. انتهى الشريط أمام مستقبل غامض, كم كان مشرقاً فأصبح قامتاً , كم كانت تتطلع لبلوغه وها هي الآن تعدو إلى الوراء لتعيش الذكريات هرباً منه.أخذت الطائرة تقلع.
" كم أكره الطيران" تحدث الرجل بجانبها في محاولة يائسة لبدء حوار مع تلك الفاتنة بجانبه إلا أنه كان أهون عليها من وقع الذباب, فلم تحاول أن تذبه أو تطلب منه الصمت فقد كان بالنسبة لها كعدمه. وبعد حين و سرعان ما اعلم القبطان ركاب طائرته إمكانهم نزع أحزمة السلامة وإذ بالحياة تدب مرةً أخرى على متن الطائرة ويبعث الركاب أحياء بضجتهم و صخبهم فيتسابقون في فك هذا الوثاق حتى صار صوت فك الحزام كالموسيقى العشواء! وكأن الناس في حقيقتهم يكرهون أي قيد يطوقهم وإن كان لسلامتهم! ثم جائت المضيفة المتصنعة لتقدم وجبة خفيفة فأخذ رجل الأعمال يبادلها أطراف الحديث و جال في نفس الفتاة أكانت تحدثه لو لم يكن في الدرجة الأولى أثناء عملها؟ أكان يحدثها بنفس الإنبساط والإنشراح لو كانت تكبره بعقود من الزمن؟
سيدتي؟ هل من شيء تريدينه؟
لا شكراً لك
متأكدة؟
نعم .
أخذت الطائرة تهتز اهتزازاً خفيفاً فأحنت رأسها وانسدل شعرها ليخفي محاسنها وعقدت يديها وكأنها تصلي و بدا للرجل بجانبها أنه ثمة شيء إلا أنه توجس في نفسه فتوجه للمضيفة قائلاً : يبدو الإضطراب بادياً على الفتاة بجانبي هلا ذهبتي وهدأتي من روعها؟ اهتزت الطائرة بشدة.. وبدأ الخوف يسلك طريقه إلى قلوب الركاب, وعبقت رائحته الطائرة إلا أن البشر وخصوصاً من تصنع منهم لا قدرة لهم على شم الخوف كما للحيوانات أن تشمّه وتشم الحب والكره. لكن الخوف أبى إلا أن يعلم القوم بحضوره تفشى كالطاعون من نفس لأخرى وأخذ الناس ينظرون لبعضهم البعض, ربما لأنهم أرادوا بذاك أن يكذبوا أنفسهم, وأنهم يبالغون في الخوف لكن ما أن تلاقت أعينهم حتى رأى كل منهم الخوف في قبضة الآخر متشبثا بكرسيه.
ضحك رجل الأعمال وهو يترنح كالثمل, في محاولة يائسة ليثبت لنفسه قبل غيره رباط جأشه. "لا تخافوا قد رأيت ما هو أسوأ " جلست المضيفة بجانب الفتاة:
عزيزتي إن مثل "هذه الإهتزا... " و رجت الطائرة هذه المرة رجاً عنيفاً : إنها مطبات جوية نمر بها في كل رحلة أصدقك القول إن كل شيء على ما يرام. التفت الفتاة إليها وانكشف حسنها بعينين تغرقان في دموع غاضبة تحدجان في من اقتحم صلاتها لم يكن بكاء خوف بل كان بكاء غضب يذيب كحلاً متحجراُ لينهمر قاتما كغضبها. دهشت المضيفة وانعقد لسانها أحست ببرودة تسري بداخلها. ساد الطائرة صمت مطبق.. هدوء يسبق العاصفة, هو نفس الصمت و نفس اليقين الذي يحل بمن حلق بطائرته الورقية واستيقن أنها بلغت أقصى علوها إلا أن ما يستقل الناس اليوم ليس لعبةً بل حقيقة !
أخذت الطائرة تهوي والأمتعة تتساقط و صرخ الجميع و علا صياح النساء وبكاء الأطفال, وقامت المضيفة تبكي وتصرخ وهي تحاول فك يدها لتهرب من شبح الموت الذي تجسد في هذه الفتاة ولكن الفتاة ظلت قابضة على معصمها و ابتسمت قائلة : ما الخطب عزيزتي؟ لا تخافي فالآن أصبح كل شيء على ما يرام ..
اعلن بعد ساعات سقوط طائرة الخطوط الجوية المصرية في صبيحة الأول من تشرين الثاني للعام 1999 ولا زال الغموض يكتنف الحادثة.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home


>